الاستفسار … قانون أم استبداد

سالني أحد الاخوة الافاضل مرة حول الاستفسارات التي كثيرا ما يتحفنا بها السادة المدراء والمفتشين وبعد اطلاعي على جل المراسيم والمناشير والقوانين المنظمة للقطاع وحتى بمقارنتها مع القطاعات الاخرى في الوظيف العمومي اصابتني الدهشة و احسست بمدى ضحالة التكوين القانوني لمسؤولي الادارة التربوية عندنا ومدى استخفافهم بالعمال والموظفين وكذا بمدى قُصر النظر واحيانا العمى والحقد الذي يصيب بعض المدراء والمسؤولين عندنا وبكل اسف.
فتساءلت في قرارة نفسي ما هو السند القانوني الذي يستند عليه المدراء والمفتشين لمنح واهداء المدرسين الوثيقة الاعجوبة ” استفسار” بالمجان ولأتفه الاسباب؟وما لا افهمه بصراحة : هو لماذا الافراط في استخدامها لاتفه الامور وابسط الاخطاء؟ حتى صارت في حد ذاتها عقوبة!!!!!
ايها الزملاء الافاضل وفي هذه الايام العظيمة والعصيبة التي تمر بها امتنا العربية من انتفاضات ومظاهرت ضد انظمتها المستبدة والمتسلطة في أكثر من بلاد عربية , هاته الامواج الجماهيرية تقتدي بثورة الاحرار ثورة الشعب الذي أسقط نظام الظلم والاستبداد في تونس الخضراء , لقد كان سقوط ذلك النظام الامني القمعي الذي ظل جاثما على صدور التونسيين 23 سنة كاملة سقوطا مدويا وعظيما عظمة الشعوب التي تتوق للحرية والتحرر.
اخوتي الكرام …
ان المدير المتمكن والمفتش الجيد والقائد الممتاز لا يستخدم البتة هذه الوثيقة الا فيما ندر مما لها من انعكاسات سلبية و احيانا مدمرة على الموظف ونفسيته تحديدا, فما الضيٌر لو ان المسؤول بدل من ارسال استفسار للموظف الذي يعتقد انه مخطيئ يستدعيه الى مكتبه ويتحاور معه 5 او 10 دقائق ليستفسر او يفهم منه اسباب الخطأ ثم يتخذ القرار بالعقوبة او عدمها وبهذا يكون الامر قد انتهى عند هذا الحد!!!
الامر بهذه البساطة يا اخوان!!!
لكن للاسف ان كثيرا من الاستفسارات ما هي الا هدر للمال العام من اوراق وحبر وطباعة ومضيعة للجهد البشري للموظف او للموظفة التي تملأ و تطبع هاته الوثيقة.
فمثلا ان غياب مدرس ما عن ندوة تربوية او تكوينية أمسية يوم الثلاثاء لا يعتبر خطئا مهنيا جسيما وخطيرا يستدعي كل استنفار ثم توجيه انذار او توبيخ.
نعم مهم جدا للموظف ان يحضر هاته الاجتماعات لما لها من انعكاس على حياته المهنية وزيادة معارفه, والغياب بدون مبرر نتفق كلنا انه سلوك غير مقبول ومرفوض لان الحضور لهذه اللقاءات من صلب مهام الموظف ووجباته , لكن اعتراضنا هنا و الخطا او التجاوز الذي يقع هنا هو عدم احترام الاجراءات القانونية التي نص عليها المشرع فالمادة 178 من قانون الوظيفة العمومية 06-03 تنص على ان اخطاء الدرجة الاولى التي تستدعي عقوبة التنبيه او الانذار او التوبيخ هي الاخلال بالانضباط العام أي الغيابات او التأخرات بشكل أساسي, اما المادة 165 فلقد أعطت صلاحية منح العقوبات من الدرجة الأولى والثانية للسلطة التي لها صلاحية التعيين  وهي في هذه الحالة مديرية التربية ولا احد سواها لا المدير ولا المفتش – وقد اشترطت نفس المادة ان تكون العقوبة مبررة وبعد حصولها – أي السلطة التي لها صلاحية التعيين – على توضيحات كتابية من المعني.
وحينما يؤكد المشرع على ضرورة طلب توضيحات كتابية فذلك من اجل ضمان وحماية حقوق الموظف وحتى لا يكون هناك تلاعب من طرف الإدارة.
وعلى هذا الاساس فان الادارة حينما لا تحترم هذه الاجراءات في اقرار العقوبة فهي خالفت القانون والتشريع المعمول به لهذا فان العقوبة عندئذ تعتبر غير قانونية وغير مؤسسة ويمكن ان يُطعن فيها لدى نفس السلطة التي اصدرتها او لدى مفتشية الوظيف العمومي.
ورغم ذلك وتحسبا لاي تجاوز اوتعسف في استخدام حق اقرار العقوبات من الدرجة الاولى والثانية فان المشرع الجزائري اعطى للموظف الحق في طلب اعادة الاعتبار بعد مرور سنة كاملة من تاريخ اصدار العقوبة بل اكثر من ذلك فان العقوبة تسقط تلقائيا بعد مرور سنتين وفي حالة رد الاعتبار يُمحى كل أثر للعقوبة من ملف المعني وكأنها لم تكن.(المادة 176 من قانون الوظيفة العمومية).
السؤال المطروح: لماذا الاستفسار؟
ان الموظف العام يجب ان يقوم بالمهام الموكلة اليه طبقا للتشريع وهذا ما قررته المادة 41 و52 من الامر 03- 06 وكرسته القرارات الوزارية المتضمنة مهام كل سلك من اسلاك التربية والتعليم , فالموظف هو مرآة الدولة وعون من أعوانها لكن هذا لا يعني ان الموظف يكون دائما عند حسن ظن الإدارة ويقوم بوظيفته و مهامه على احسن وجه , فقد يقوم الموظف بمخالفة ما يفرضه عليه القانون من واجبات وهنا لابد ان تقوم الإدارة بمعاقبته بإحدى العقوبات التي تتناسب مع حجم المخالفة لهذه الواجبات.فمما لا شك فيه ان الواجبات تبقى غير ذي جدوى او نفع إذا لم تترتب على مخالفتها عقوبة ما، وهذا ما يسمى بالنظام الانضباطي او التاديبي وهو معمول به في كل القوانين والشرائع وفي كل البلدان والاماكن.
لكن المشرع الجزائري اعطى ضمانات للموظف حتى لا يكون هناك تعسف في استخدام السلطة او استبداد نتيجة لهاته السلطة المطلقة, فقيد هذا الحق بضوابط وتشريعات.
لذلك ” فان العقوبات الانضباطية هي الجزاءات التي توقع على مرتكبي المخالفات الوظيفية” ان هذه العقوبات المسلطة على الموظف قد تكون ذات طبيعة أدبية (انذار او توبيخ او تنبيه او لفت نظر كتابي او شفوي)أو مالية (خصم من المرتب ليوم او عدة ايام او الشطب من قائمة التاهيل او التنزيل في الرتبة او الدرجة او النقل الاجباري ) أو مُنهية للعلاقة الوظيفية (العزل او التسريح)وهذا طبقا لما جاء في القانون الاساسي العام للوظيفة العمومي.
وكل عقوبة يجب ان تكون مبررة أي بعد طلب تبرير الموظف المخطئ سواء كان التبرير كتابي او شفوي او بتقديم وثائق , والتبرير الكتابي هو المسمى استفسار , فعندما يتغيب الموظف عن عمله لفترة ما فان الادارة ملزمة باستفساره عن سبب الغياب لسبب واحد هو ان القانون يمنع على أي موظف ان يتقاضى اجرا على فترة عمل لم يعمل فيها (المادة 207 من قانون الوظيفة العمومية ) وبالتالي فانه في هذه الحالة الاستفسار عن الغياب ليس الزاميا ان يكون كتابيا لانه ببساطة لا يترتب عنه انذارا او تنبيها او توبيخا (عقوبة من الدرجة الاولى) الا في حاة التكرار والتمادي, بل كل ما يترتب عن غياب الموظف لساعات او يوم كامل مثلا هو خصم مدة الغياب وهو عقاب او جزاء مادي (يخصم للموظف من مرتبه بالايام فاذا غاب يوم كامل صباحا ومساءا مهما كان عدد الساعات التي عملها في اليوم اما غياب ساعات فقط فيخصم للموظف يوم كامل اذا وصل عدد ساعات الغياب 04 ساعات كاملة وهي اقل معدل او متوسط العمل اليومي لعمال التربية ) . لذا فتوجيه استفسار كتابي للموظف على غياب ساعة او ساعتين مثلا لا مبرر له ويمكن ان يعتبر استفزازا لا داعي له.
اذا تطلب الادارة من الموظف تفسيرات حول سبب غيابه وبعد الرد الشفوي او الكتابي تبقى سلطة التقديرية للادارة, فاذا رأت ان التبرير كاف فيصبح غياب الموظف شرعي ومبرر هنا يبرز احتمالان:
– اما يعتبر غياب بمرتب: ويتقاضى الموظف مرتبه كاملا.
– او غياب دون مرتب: رغم ان الغياب شرعي ومبرر لكنه بدون اجر او مرتب مثال: العطلة الاستثنائية التي من حق الموظف ان يستفيد منها و مدتها 10 ايام في السنة اقرها المشرع لكل عمال الوظيف العمومي لكنها بدون مرتب أي تخصم من الراتب.
وفي الحالاتين لا عقوبة ادارية او متابعة للموظف.
اما لو اعتبرت الادارة ان التبريرات المقدمة من الموظف غير كافية يعتبر عندها غيابه غير شرعي وغير مبرر (غ غ ش) وهو ما يجعل الموظف عرضة لنوعين من العقوبات هما:
1- عقوبات مادية تتمثل في الخصم من المرتب
2- عقوبات ادرة تتمثل في امكانية منح تنبية او انذار او توبيخ مكتوب
هذا ما أردت ان اوضحه في هذا الموضوع خاصة للزملاء المدراء والمفتشين الجدد فعليهم ان يعلموا ان القانون نص وروح فيجب التقيد بروحه وليس بنصه حرفيا والافضل ان يكسب المسؤول قلوب موظفيه ويتفادى استفزازهم ,كما عليه ان لا يتقيد بطريقة ومنهجية من سبقوه ويفعل ما كانوا يفعلونه , فلكل زمان رجاله وطرقه والياته ,فما كان عرفا مقبولا في السبعينيات من القرن الماضي لم يعد مقبولا في القرن الحالي لذا يجب تطوير وسائل وطرق التسيير الاداري والبيداغوجي للادارة وتحديثها باستمرار بما يتماشى مع روح العصر ومتطلباته حتى نلحق بالركب يوما.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عن العابد الكنتي

شاهد أيضاً

الرحلات التربوية بين العرف والقانون

يمكن لاي جهة كانت ان تنظم رحلة تربوية لفائدة الاطفال القصر. لكن هناك ضوابط وتنظيمات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *